رساله عند الموت (قصه قصيره)

سنة . ظهر يوم متوسط البرودة .. ممطر .. جنازة ساكنة تضم القليل من
الأشخاص يحملون نعش أخضر خفيف لجسد صغير ,, يمشي هو من خلف النعش .. يتوسط
الجموع القليلة ,, يبكي حرقة فراق ابنه الوحيد الذي لم يبلغ السبع سنوات
بعد ,, يطل بنظرات زائغة في وجوه أصدقائه لم يجد إلا أقل القليل منهم ...

رنين الباب يتصاعد ينتزعه مما فيه . يترك الأريكة المزركشة القائمة أمام باب المنزل
يذهب يفتح الباب ..

- صديقي مرحبا بك
- أجبته في لهفة : هل أرسلت في طلبي . لقد وصلتني رسالتك على هاتفي المحمول أنك تريد أن تراني الآن و بسرعة
- نعم أريدك في موضوع هام .. تفضل

دخلت
إلى شقته المتوسطة الأثاث و لكنها مفروشة بعناية و حرص مثله تماما . توجهت
إلى حيث نجلس سويا دائما في حجرته القابعة على الجهة اليمنى من باب الشقة
. نفس الأريكة التي أجلس عليها المطلة على الشرفة المفتوحة دائما .. لكنها
اليوم كانت مغلقة .. الحائط بلونه الأخضر الباهت مرصوص عليه صور لابنه
الراحل في مراحل عمره المختلفة .

نادى علي من خارج الغرفة أنه سيعد عصير البرتقال المفضل لي . فأومأت له برأسي إيجابا

تأخر علي قليلا و لكنه أتى يحمل كوب العصير .. ناوله لي .. و أعتدل يفك ربطة عنقه قليلا ثم جلس في الكرسي المقابل لي.

تفحصته
بنظري قليلا كان يلبس قميصا لبني .. أكمامه طويلة و يلبس على يده غطاء من
البلاستيك و ربطة عنق بألوان متداخلة تنعكس على وجهه الأبيض ذو الملامح
الهادئة الغامضة . عيناه الواسعة الباهتة .. أنفه القصير المستقيم .. فمه
الواسع .. أذنه المنبعجة للخارج و إن كانت خصلات شعره الأسود الكثيف
تغطيها . لا أعلم لقد كان بالنسبة لي غامضا تماما ...

- لماذا تتطلع إلي هكذا؟
- أجبته في هدوء : لماذا تلبس ذلك الغطاء في يدك؟
- أشاح بيده : لا تبالي أنه مرض جلدي طفيف يمنعني من تعريض يدي للضوء
- لذلك تغلق النوافذ على غير العادة
- ابتسم في غموض : نعم ذلك هو السبب
- مبتسما : فيما كنت تريدني ؟
- في البداية أشرب العصير و سأخبرك حالا

بدأت في ارتشاف العصير ثم جرعته كاملا فقد كنت في أمس الحاجة إليه . و بدأ حديثه

- هل تعتقد أني غير محبوب ؟
- لماذا تقول ذلك ؟
- إذا لماذا عندما مات ابني لم يأت إلا القليل ؟ حتى أنت لم تأت
- في لهجة المدافع عن نفسه : لقد أخبرتك كنت مريض و لكني بعثت لك برسالة تعازي
- اندفع في حدة : لم يكن ذلك كافيا
هممت بالرد مرة أخرى و لكنه لم يتح لي الفرصة . فقد استعاد هدوءه الغامض مرة أخرى و قال لي
- لم يعد ذلك مهما فقد مر الكثير . و لقد قرأت أيضا أن الأطفال الصغار يدخلون الجنة
- نعم أعتقد ذلك
- على الأقل يرتاحوا
قالها و انغمس في ضحك مرير و قطعها فجأة ...
- هل تعلم إذا كان الأمر بيدي لقتلت الأطفال حتى يدخلوا الجنة
انتفضت في رعب . و لكنه أكمل :
- هل تعلم إذا كان لدي طفل في سن شادي ابن أختك لكنت فكرت في قتله فورا
انتفضت رعبا مجددا و هممت أن أرد و لكن لا أعلم .. لساني كان تلجم تماما
- صدقني تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد
كان لساني تحرر قليلا في تلك اللحظة و هببت واقفا
- هل جننت . هل تريدني أن أقتل ابن أختي ؟
- و من طلب منك ذلك ؟
- هتفت في حدة : ماذا تعني ؟ لقد كنت تلمح إلى ذلك منذ قليل
- أشار في صرامة : أجلس و أهدأ

لا أعلم كيف حدث هذا لكني أطعته و جلست

و منذ أن جلست بدأ دوار عنيف يكتنف عقلي . و لكن سمعت صوته يستمر في غموض و سخرية :
- أعذرني يا صديقي فمن الآن لن تستطيع التحرك بسبب ما وضعته لك في عصيرك المفضل
ثم نظر في ساعته التي تشير إلى العاشرة صباحا
- في خلال عشر دقائق ستكون في غيبوبة عميقة لن تستطيع أن تفيق منها لمدة على الأقل تسع ساعات
- و لكن أحب أن أحييك على دقة ملاحظتك بخصوص الغطاء
ازدادت ابتسامته غموضا :
- لكنه لم يكن من أجل أي مرض سخيف لقد كان من أجل بصماتي
قام فجأة من مقعده و راح يلوح بحركات مسرحية
- ابن أختك يقيم الآن مع جدته في أطراف المدينة . الحركة هناك قليلة . في طريق عودته من المدرسة
ثم لوح بيده كعلامة المسدس
- نكون قد أتممنا المهمة بنجاح
كانت ملامحي جامدة متهالكة لا أستطيع مقاومة ذلك الدوار و لكني غمغمت:
- مستحيل ستقع في يد العدالة

لكنه ضحك بسخرية و جنون :
- لا مستحيل يا صديقي . فأنا لست من الهواة
. فأنا أعلنها لك الآن أنني قاتل مدرب محترف .. امتهنتها منذ عدة أعوام
و طبعا من السهل الاختفاء و التسرب و عدم ترك دليل

مال ناحيتي و نظر لي بحنان عجيب :

- و لكن لا تقلق .. أنت لا تعتبر دليل .. لذلك لن تكون في خطر
فأنت صديقي
- بالنسبة لك .. فرسميا أنا بعت الشقة أمس لمشتري آخر . و لكنه وهمي . و عندما تستفيق ستكون مقيدا بعناية و مكمم و لكن ليس هنا
ثم أشار بيده إلى أسفل :
- و لكن في الشقة في الطابق السفلي . و سأبلغ الشرطة باختفائك العجيب بعد رسالتي لك
سأسرب معلومة للشرطة لكن بطريقتي
- بالنسبة لبصماتك فأطمئن فأنا مدرب على كيفية التنظيف الأمن . حتى يظنني البعض أني كنت أعمل مع فرق التنظيف الخاصة بالمخابرات
و أمسك بكوب العصير و مال نحوي هامسا
- حتى الكوب لن يجدوه هنا في الشقة
ثم أداره بيده بحده فكاد يسقط و لكنه ألتقطه أخيرا:
- ذلك من عيوب هذا الغطاء السخيف , و لكن لن يجدوا الكوب
ثم استعاد وضعه الطبيعي واقفا و بحركات قلقة مجنونة و بلهجة آسفة حقيقية:
- أرجوك لا تفهم ما أفعله على أنه انتقاما منك
و استطرد بحدة أكبر :
- بل مكافأة لك فعندما يموت طفل صغير يدخل الجنة . أليس كذلك ؟
اخبرني بالله عليك أليس ذلك صحيحا؟ هل ابني سيدخل الجنة ؟

قالها و بكى كثيرا بصوت عال و نظر إلى صورة ابنه على الحائط متأملها بعيون دامعة :

- معذرة يا ولدي سامحني .. و لكني لا أعتقد أنني سأقابلك هناك .........

منقول